العراق: ملامح المشهد الراهن ومآلاته

العراق: ملامح المشهد الراهن ومآلاته

في العاشر من يونيو/حزيران الجاري تمكنت قوات الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، وجنود الطريقة النقشبندية، الموالون لنائب الرئيس الأسبق، «عزة الدوري»، وثوار عشائريون سُنّة، وضباط من الجيش العراقي السابق، وعناصر ممن تبقى من تنظيمات المقاومة العراقية ضد الاحتلال، تمكن هؤلاء من السيطرة على مدينة الموصل، وأجزاء واسعة من محافظة نينوى العراقية؛ وخلال أيام قليلة استطاعت المجموعات المسلحة – في ظل انهيار الجيش العراقي وانسحاب جنوده - من توسيع نفوذها في مناطق شمال وغرب العراق.

 

من قاعدة بن لادن إلى دولة البغدادي

في عام 2004 أسس «أبومصعب الزرقاوي» تنظيم «جماعة التوحيد والجهاد»، لمواجهة قوات الاحتلال الأمريكي، تحول فيما بعد إلى «تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين» عقب مباعية «الزرقاوي» لـ«أسامة بن لادن». في يونيو/حزيران 2006، وبتنسيق عراقي-إيراني-أمركي، تم اغتيال «الزرقاوي»، ليحل محله مؤقتا «أبوأيوب المصري»، ( المعروف باسم أبوحمزة المهاجر).

 

لم يحظَ «أبوحمزة» برضا قيادة القاعدة، ومن ثم بايع قيادة جديدة، معلنا انضمام تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين إلى «دولة العراق الإسلامية»، التي اختير «أبوعمر البغدادي» أميرا لها. في عام 2010، قُتل «أبوعمر البغدادي»، و«أبوحمزة المهاجر» على يد القوات الأمريكية، وأصبح «أبوبكر البغدادي» أميرا للدولة.

 

في أبريل/نيسان 2013، أعلن عن تأسيس «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، عقب اشتراك التنظيم  في الحرب ضد نظام «بشار الأسد». في سوريا، ظهر التنظيم باعتباره الطبعة الأكثر تطرفا من طبعات تنظيم القاعدة؛ تمرد «البغدادي» على «الظواهري»، وتعامل باستعلاء على «الجولاني» زعيم جبهة النصرة – فرع القاعدة في سوريا – باعتباره تابعا للبغدادي أرسله مؤقتا إلى سوريا. بإعلان تأسيس الدولة أصبح للبغدادي (بيعة) مقدمة حتى على بيعة «الظواهري»، وطالب المتحدث باسم الدولة، في تسجيل منشور، من «الظواهري» أن يبايع «البغدادي» بدلا من أن يطلب منه الخروج من سوريا.

 

قاتلت الدولة الإسلامية غالبية الفصائل المقاومة في سوريا، واغتالت عددا من قادتها، ومن ثم استعدت الجميع ضدها، بمن في ذلك جبهة النصرة و«الظواهري» نفسه الذي أدان سلوكها. وهو ما دفع البعض للتشكيك في حقيقة دورها واتهامها بخدمة نظام «الأسد»

 

من الضروري إذا عدم إغفال هذه الخلفية التاريخية لأنها تشكل الحاضنة الطبيعية لتطور التنظيم. وتنفي عنه بداهة افتراض أنه تنظيم مصنوع أو مختلق، بينما هو في حرب متواصلة مع الاحتلال الأمريكي والصحوات السنية منذ سنوات في العراق.

 

ثمة من يتسائل حول سهولة تقدم داعش في العراق، أو عدم دخول النظام السوري معه في مواجهات حقيقية.  كما تمتد التساؤلات إلى تجنب داعش خوض مواجهات كبيرة مع نفوذ بشار الأسد والتركيز على مناطق سيطرة المعارضة السورية. وهي تساؤلات مشروعة ومهمة، لكنه لا تعني تقبلنا لسيناريو المؤامرة (المريح دائما والمضلل غالبا).

 

تعامل التنظيم ببراجماتية سياسية وعسكريةلافتة، وربما لعبت عناصر الجيش العراقي القديم دورا في رسم استراتيجية تحركه الميداني المرسومة بدقة بحيث يتجنب خوض معارك مفصلية مع الأسد أو إيران في العراق أو حتى أربيل التي تمثل خطا أحمر أمريكيا. وحدد أهدافه في التمدد لمناطق رخوة وفرت له موارد مالية وعتادا عسكريا (غالبا اقتصرت مواجهاته مع قوات الأسد على مخازن سلاح أو معسكرات أو مطارات عسكرية لهذا السبب).

 

في المقابل تعمد الأسد عدم الإجهاز على التنظيم، وعدم استهدافه بآلته الحربية الجوية المدمرة لأنه يمثل له مبررا للبقاء دوليا، كما أنه يخطط لجعل محاربته بابا لعودته كنظام شرعي ضمن مواجهة دولية وإقليمية.

 

في العراق، تركته إيران طالما ابتعد عن العاصمة ومدن الشيعية الكبرى، لأن وجود هذا النمط من (التوحش السني) هو خير ما يوحد الموقف الشيعي في العراق خلفها باعتبارها الحاضنة الإقليمية للشيعة (خاصة مع خلافات شيعية داخلية حول الموقف من نوري المالكي وحكومته). من الضروري تذكر أن إيران كانت هي المعبر الرئيسي لمقاتلي القاعدة عقب الاحتلال الأمريكي لأفغانستان، وأنها سهلت عبور بعض القيادات وأبقت البعض لديها كمعتقلين؛ وهي سياسة إيرانية تهدف لامتلاك أوراق مساومة ومناورة دون أن يعني هذا أن ثمة تحالف بين القاعدة وإيران.

 

الخلاصة أن استفادة بعض الأطراف من ظهور وتقدم داعش لا يعني أنها بالضرورة أوجدته، أو أنها حليف له. جانب كبير من النجاح في إدارة الصراع يتوقف على قدرة الأطراف على توظيف مكونات المشهد بما يخدم مصالحها، وقد أحسن النظام السوري وحليفه الإيراني من استثمار صعود داعش بصورة خدعت كثيرين فتوهموا أن ثمة مؤامرة.

 

 

ملامح المشهد ودلالاته

ما حدث يوم 10 يونيو/حزيران، والأيام القليلة التي تلت ذلك، هو تغير حقيقي في خريطة الصراع المسلح في العراق وسوريا؛ لم تعد الدولة الإسلامية مجرد مجموعة مسلحة تنفذ هجمات "انتحارية"، بل (قوة) انسحب أمامها (جيش) تاركا معداته في مشهد استثنائي، لا يمكن بأي حال الاستسلام ازائه إلى سيناريو المؤامرة.

 

"تحرير" نينوى أعاد إلى الأجندة الدولية ملف الإرهاب العابر للحدود كأولوية لا تحتمل التأجيل. خلال الأسبوعين التاليين التقى «جون كيري» بغالبية المسؤولين في العراق ودول الخليج العربي، بالإضافة إلى تصريحات متتالية من البيت الأبيض والبنتاجون، فضلا عن اتصالات مع الجمهورية الإسلامية في إيران.

 

 

يمكن تلخيص ملامح المشهد الراهن ودلالاته فيما يلي:

 

  • أولا: إعادة بناء التحالفات على أساس أولوية الحرب على الإرهاب

المكاسب الأخيرة التي حققها تنظيم «داعش» في العراق دفعت واشنطن لإعادة إحياء تعاونها مع المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى في إطار مكافحة "تمويل الإرهاب"، فمخاوف هذه الدول من تهديدات داعش على أرضها تزداد عمقاً. وقد كانت الزيارة التي قام بها وزير الخزانة الأمريكي «جاك ليو» خلال يونيو/حزيران إلى السعودية والإمارات، خطوةً في هذا السياق.([1]) تبعتها زيارة لوزير الدفاع البريطاني الذي أكد من الكويت أن مزيد من تقدم داعش تجاه ممالك الخليج سيؤدي إلى موقف مختلف لبريطانيا. (تطورت لاحقا تبعات زيارة ليو، في قرارات أمريكية وأممية بإدراج أسماء خليجية ضمن لائحة تمويل الإرهاب، ويتوقع أن تستمر الإجراءات على الأقل داخل الكويت والسعودية وقطر)

 

ثمة تقدير يرى أن ثقة داعش بالنفس التي جمعها من انجازاته في العراق وفي سوريا والمال الهائل الذي تحت تصرفه لا يمكنها أن تساعده في احتلال العراق لكن بوسعها بالتأكيد أن تشجعه على استغلالها من أجل توسيع عمله، والبقاء ليقاتل فترة أطول مما يتوقع الجميع.[2]

 

بوابة الحرب على الإرهاب تتسع لأنظمة عدة: فبالإضافة إلى بشارالأسد (وتوجد تقارير إسرائيلية وأوربية عن استعداد الأطراف الدولية والسعودية لتقبل بقاء بشار ضمن تفاهمات جديدة)، ظهر الدور المصري المتنامي سواء في ليبيا، أو في العراق بصورة مباشرة. وكان وزير الخارجية المصري من المسؤولين القلائل الذي توجهوا لزيارة نوري المالكي ودعمه في أيامه الأخيرة رغم أن الأخير كان واضحا أنه بات عبئا على الجميع. كما كشف تقارير عن مشروع تسوية عربية تقودها مصر بخصوص سوريا تقبل ببقاء بشار كمرحلة انتقالية.

 

مازال الأمر محل تكهنات، لكن المؤشرات الكثيرة تعكس أن المبدأ بات ملحا وغير مستبعدا.

 

  • ثانيا: إعادة ترتيب "فوضى" المعارضة السورية المسلحة أو إعادة تأهيل النظام

في ديسمبر/كانون الأول الماضي استولى المقاتلون الإسلاميون على مخزونات الإمدادات "غير المميتة" التي تقدمها الولايات المتحدة والتي يتم تخزينها في المستودعات على طول الحدود السورية التركية، ومن ثم قطعت واشنطن بعض شحنات المساعدات الجديدة لعدة أشهر. وقد دفع التقدم الكاسح لداعش في العراق هذا الشهر البيت الأبيض لحشد التأييد للمعارضة السورية. يوم الخميس 27 يونيو/حزيران، قالت إدارة أوباما إنها طلبت من الكونغرس 500 مليون دولار من المساعدات لتدريب وتجهيز «عناصر يتم فحصها بشكل مناسب من المعارضة السورية المعتدلة»، وفقا لبيان صادر عن مجلس الأمن القومي.([3])

 

بحسب شهادة ميدانية([4])، فإنه عقب سيطرة داعش على الموصل تمكن التنظيم من إداخال معدات عسكرية نوعية إلى سوريا؛ في المقابل، اضطرت ميلشيات عراقية شيعية مسلحة تقاتل في سوريا للعودة إلى بغداد. وهي متغيرات تبرر عودة الإهتمام الأمريكي بتدريب وتسليح من تعتبرهم "معتدلين" في سوريا.

 

في المقابل ليس من المستبعد، كما نوهنا سابقا، أن يكون البديل هو إعادة تأهيل النظام، مؤقتا، والبحث عن دور له في الحرب على "الإرهاب" باعتبار أنها المعركة الأكثر أولوية للغرب.

 

  • ثالثا: زيادة التنسيق الإيراني الأمريكي

 يؤدي الطريق المسدود الى لقاء مصالح خاص، بين الولايات المتحدة وايران. فقد كشف الرئيس أوباما عن محادثات بين إيران والولايات المتحدة في الشأن العراقي، وأن الولايات المتحدة دعت إيران الى عدم العمل بشكل يفاقم التوترات الطائفية. وبزعمه، فان بوسع إيران أن تلعب دورا إيجابيا في إقامة حكومة وحدة بين الطوائف. ويبدو أن الولايات المتحدة قلقة من أن تسيطر إيران على الأقاليم الشيعية في العراق من خلال فروعها – الحرس الثوري وغيرها من الفروع الأخرى (توجد أدلة منذ الآن على تواجد الحرس الثوري في مدن في العراق كما أطلقت تصريحات إيرانية حول الاستعداد لمساعدة السكان الشيعة في العراق وحماية الأماكن المقدسة للشيعة).([5])

 

إيران لن تنتظر إذنا من الولايات المتحدة كي تتدخل في العراق، وترسم مستقبله. وهي تتعامل ببراجماتية سياسية تبدو متناقضة مع ممارسات طائفية في العراق وسرويا. فعلى الرغم من العلاقات الفاترة مع إقليم كردستان (إيران هي أكثر الأطراف رفضا لفكرة دولة كردية) إلا أنها بحسب رئيس الإقليم مسعود برزاني كانت أول من أمدهم بالسلاح مؤخرا لمواجهة مقاتلي الدولة الإسلامية. وهي بالتأكيد إمدادات ليست بلامقابل. ومن ثم يفرض هذا التواجد على الولايات التحدة التنسيق مع إيران تماما كما هو الحال في العراق منذ الاحتلال الأمريكي.

 

  • رابعا: دعوات التقسيم والتجزئة

أكد رئيس إقليم كردستان العراق «مسعود بارزاني» الجمعة 17 يونيو/حزيران أن سيطرة الأكراد على كركوك ومناطق أخرى متنازع عليها مع بغداد أمر نهائي بعدما اعتبر أن المادة 140 من الدستور الخاصة بهذه المناطق "لم يبق لها وجود". وقال «بارزاني» في مؤتمر صحافي مشترك مع وزير الخارجية البريطاني «وليام هيغ» في أربيل: «لقد صبرنا عشر سنوات مع الحكومة الاتحادية لحل مشاكل هذه المناطق وفق المادة 140 ولكن دون جدوى».

 

من الواضح إذا أن المستفيد الأول من انكسار جيش المالكي هم قادة الإقليم (الذي يتمتع بستقلال كبير أصلا)، واستطاعت قوات البشمركة فرض واقع في المناطق المتنازع عليها، وهو ما يعزز من الوضع الجيوسياسي لحكومة الإقليم، ويحعلها اكثر جرأة في تبني سياسة انفصالية.

 

يتزامن ذلك مع وضع إقليمي لا يبدو معاديا لدولة كردية مستقلة؛ فالعدو الإسرائيلي أعلن على لسان رئيس وزارئه ووزير خارجيته أن إسرائيل ستدعم خطوة من هذا النوع. وتشير تقديرات أن تركيا لن تقف عائق أمام استقلال الإقليم الذي – ولأسباب داخلية تركية – بات حليفا لحكومة العدالة والتنمية.

 

التعايش المشترك بين مكونات العراق الطائفية (المسلمون السنة والشيعة)، والقومية (عرب وأكراد)، بات غير متوقع في المدى القريب. ومن ثم قد يتم التوافق دوليا وإقليميا أنه من الأفضل بناء حكومات أكثر استقرارا على أسس طائفية وقومية. (نوع من سايكس بيكو جديد مع اختلاف السياق التاريخي والسياسي).

 

البيت السني أصبح مهيئا مبدئيا لمبدأ تقسيم العراق إلى أقاليم ثلاثة تتمتع بقدر كبير من الاستقلالية.[6] فمع المعاناة التي تعرض لها السنة خلال السنوات الماضية أصبحت الأولوية الآن للعيش الآمن، وهو مطلب لا يمكن تحققه من وجهة نظرهم إلا بالاستقلال الإداري والأمني عن بغداد وحكومتها الطائفية.

 

حاليا، تعتبر إسرائيل هي الداعم الرئيسي والمروج النشط لتطلعات قادة إقليم كردستان، ليس فقط لعمق العلاقات التي تربطهم بأكراد العراق منذ سنوات طويلة، ولكن بحسب تقدير اسرائيلي يرى أنه حان الوقت للاستعداد فكريا وعمليا لنشوء فكرة إعادة تنظيم المنطقة السورية العراقية، وأساسها تفكك الدول القومية القائمة واقامة دول على أساس طائفي/عرقي: دولة علوية في غرب سوريا، كردستان في شمال العراق وسوريا، دولة سنية في منطقة شمال غرب العراق وشمال شرق سوريا، ودولة شيعية في مركز وجنوب العراق. والسبب: الرهان الإسرائيلي أن تكون خطوط التقسيم الطائفية والعرقية هي الأكثر طبيعية واستقرارا، ومن ثم تقلل الصراعات والاضطرابات الأمنية في المنطقة.([7])

 

سيناريوهات المستقبل

يتوقف مستقبل العراق والصراع الحالي على خلق حالة جديدة من الشراكة السياسية بين مكونات العراق. ليس فقط من خلال مشاركة الأحزاب السنية في الحكومة، ولكن من خلال إنهاء سياسات المالكي الطائفية التي أقصت وهمشت السنة، بالإضافة إلى انهاء نفوذ المليشيات الشيعية.

ليست هذه مهمة سهلة، خاصة مع عدم وجود أطراف حقيقية قادرة على الضغط في هذا الاتجاه.

من ثم تبدو الأمور متجه لعملية عسكرية كبيرة دون حسم الملفات الداخلية الحقيقية، وهو ما يرجح ألا تحقق نجاحا سريعا لأنها ستبدو موجهة ضد مناطق السنة ومن ثم تؤدي ربما لنتيجة عكسية تصب في صالح زيادة التعاطف مع تنظيم الدولة. التحالف الدولي الذي يستعد لمواجهة التنظيم سيختصر الكثير من الوقت والدمار إذا استطاع أولا تغيير المشهد الداخلي بالضغط على إيران وحلفائها في العراق.

لسنوات لم تتمكن الولايات المتحدة من فرض سيطرتها على أفغانستان، وبعد حوالي عقد من بداية حرب بوش على طالبان افتتحت طالبان مكتبها في الدوحة لتبدأ مسارا تفاوضيا مع الولايات المتحدة التي أرهقتها حرب لا يبدو لها نهاية. من ثم لن يتم إنهاء وجود داعش بضربة جوية، أو بمواجهة برية؛ خاصة في منطقة باتت خارج سيطرة الجميع وفي ظل عوامل طائفية وقومية تعقد المشهد من دمشق إلى بغداد. الأجواء يتم تهيئتها لعملية عسكرية ليست محدود، في العراق أولا، ضد التنظيم؛ وكانت الخطوة الأولى لها التخلص من المالكي وتشكيل حكومة جديدة توحي بشراكة سنية شيعية حتى لا يتم تصوير العملية العسكرية وكأنها ضد السنة.

 

مع تصاعد وتيرة الغارات الجوية على أماكن المقاتلين ليس من المستبعد أن تتراجع قواته إلى المناطق الهامشية والحدودية خلال أشهر. لكن ذلك لن ينهي وجوده، كما أنه لن يحل مشكلة العراق الأساسية ذات الجوانب الاجتماعية والسياسية والطائفية. العملية العسكرية تستهدف بالأساس خروج الدولة من المدن الرئيسية، وعودته كمجموعة مسلحة طرفية تتحصن بالمناطق الجبلية المنعزلة. خاصة إذا اتسعت العملية العسكرية لتشمل مناطق نفوذ التنظيم في سوريا. لكن الوصول لهذه النتيجة، لا يعني انتهاء الصراع في العراق. الواقع أنه في بداياته، وهو في الأساس ليس صراعا بين داعش وغيرها، بل صراع ضد النظام الطائفي الذي حكم العراق السنوات الماضية، وليس من الوارد أن يتقبل السنة الأوضاع السابقة.

 

خاتمة

ليس من باب المبالغة أن عراق ما بعد الحرب العالمية الأولى انتهى، وأن ثمة عراق جديد سيتشكل، وليس من الواضح على أي حدود ووفق أي توازنات. إن اللحظة الفارقة الحالية تقتضي الخروج ولو قليلا من تفاصيل المشهد ومآلاته المتوقعة قريبا، باعتبار أن ثمة فرق كبير في أدوات القوة والنفوذ وأن أطرافا أخرى قادرة على فرض الكثير من ملامح المشهد القادم. ومن ثم نحتاج  التخطيط الهادئ والمثابر لمرحلة استراتيجية أطول، والاشتباك مع الوضع الراهن فقط لتخفيف حدة التداعيات وتوجيه ولو جزء بسيط من دفة المشهد تحاه المسار الذي نعتقد في صحته وفق رؤية استراتيجية مرسومة.

 

ثمة مظالم متراكمة، ورصيد من القهر والتهميش والإقصاء... كل هذا فيما يبدوا أصبح أكبر مما يمكن للمنطقة أن تتحمله، ومع حالة "فراغ سني" كبيرة في مواجهة نفوذ إيراني وفي ظل غياب فاعل عربي إسلامي يمكنه لعب دور حصيف (غياب الدور المصري وفشل خيارات السياسة الخارجية السعودية التي باتت سياسة تقوم على اعتبارات شخصية ضيقة. كما أن تركيا لا يمكنها منفردة فرض أجندة ما وتمريرها) أصبح للفواعل من غير الدول (مثل داعش والمجموعات المسلحة عموما) دورا مؤثرا وإن لم يكن حاسما ونهائيا في مواجهة التدخلات الخارجية والنفوذ الإقليمي الإيراني. لا يزال تنظيم القاعدة وروافده يمثلون خلاصة عفن قضايانا (المظالم المؤجلة، والاستضعاف الذي لا ينتهي ..الخ)، لكنهم في نفس الوقت، الأداة الأبرز في زيادة تعفينها.■

 

انتهى


[1] لوري بلوتكين بوغاريت، التمويل السعودي لـ تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، 23 يونيو/حزيران  2014. http://goo.gl/oJUcGA. و لوري بلوتكين بوغاريت هي زميلة في برنامج سياسة الخليج في معهد واشنطن.

[2] يورام شفايتسر، "داعش" ... تقدير مخاطر، نشرة "نظرة عليا" الإسرائيلية، 27 يونيو/حزيران 2014

[3] نابيه بولوس وباتريك مكدونيل، لوس أنجيلوس تايمز 27 يونيو 2014. http://goo.gl/Lv3I7W

[4] شهادة ميدانية لأحد قادة المجموعات المسلحة أتحفظ على ذكر اسمه.

[5] كوبي ميخائيل، أودي ديكل، الآثار الاستراتيجية لنجاحات داعش في العراق وسوريا - نشرة "نظرة عليا" الإسرائيلية، 23 يونيو/حزيران 2014

[6] لقاءات مع مسؤولين وسياسيين عراقيين سُنة (إسلاميين وبعثيين)

[7] كوبي ميخائيل، أودي ديكل، سبق ذكره